
▪️لدى محاولته الفرار من النازيين، عبر الفيلسوف الألماني اليساري فالتير بنيامين الحدود الفرنسية الإسبانية، معتزماً الفرار إلى الولايات المتحدة عبر البرتغال المحايدة حينذاك، إلا أن السلطات الإسبانية المتواطئة مع النازيين أعادته إليهم؛ أثناء التحقيق معه سأله الضباط النازيون، ما إذا كان مسلحاً فلم يكن منه إلا أن أخرج قلمه من جيب سترته ووضعه على الطاولة أمامه.
▪️على كثرة ما نسيت مما قرأت في حياتي، علقت تلك الواقعة في ذاكرتي ووجداني؛ فيلسوف، أعزل من كل وسائل القوة المادية، يواجه جبروت أحد أعتى آلات القتل والتدمير التي عرفتها البشرية، وأكثرها بطشاً وتوحشاً وقسوة، آلة تمتهن قيمة الحياة البشرية تماماً وتبيد أعراقاً ومعارضين بصورةٍ ممنهجةٍ، جبروت يردفه تواطؤٌ في لحظةٍ بدا فيها أن تلك القوة الغاشمة، نجحت في بسط ظلها الكئيب على أوروبا بأسرها تقريباً، وتوشك أن تنتصر. تلك لحظة يأسٍ عميق وعميم غير مسبوقةٍ ربما في تاريخ البشرية، خاصةً في ظل ما كشفه صعود النازيين وبربرية نظريتهم ورؤيتهم للعالم، من عوار الحداثة وسذاجة ذلك التصور عن خط التطور المطرد للبشرية، والأهم من ذلك ما كشفه من الجوانب المعتمة في النفس البشرية ذاتها، ربما هي التي أودت به ودفعته إلى الانتحار في نهاية المطاف، إلا أنه أمام المحقق النازي، تشبث بالشيء الوحيد المتاح له للدفاع والتصدي: الكلمة.
“التاريخ يعلمنا أن أعتى الحصون وأكثرها منعةً، لم تقف أمام زحف الزمن والغزاة، ومهما حصنت الأنظمة نفسها فإن الزمن يسير ضدها”
▪️ربما دون أن يقصد أو يدرك مال بنيامين إلى «تفاؤل الإرادة» الشهير الذي قال به غرامشي إزاء تشاؤم العقل والتحليل الموضوعي، الذي يرى المعطيات الواقعية أمامه كابيةً لا تبشر بأي خير، ولا يخترقها بصيص نور؛ ربما جسد ذلك أيضاً «إرادة التفاؤل» أمام ذلك البغي، وربما كان ذلك رده على تلك المقولة التي شاعت للكاتب المسرحي النازي يوست على لسان أحد أشخاص مسرحياته: «حين أسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسي». أياً كان ما دار في ذهنه فالأكيد أن بنيامين بتلك الحركة، كما بمجمل تكوينه وتفكيره، يعبر عن قيمة الكلمة، تلك التي يراها الحصن المتبقي له وسلاحه في وجه الظلم، كأنه يقول بدوره الكلمة زلزلت الظالم. غير أن الأمر يتعقد حين تطال ألسنة الطغاة والأنظمة المنحطة «الكلمة» وشرفها، حين يقلبون الحق باطلاً، وتلهج ألسنتهم بالكلمات النبيلة فيبتذلونها ويهينونها، تتعهر وترخص، وتنضم إلى ما أسميه «قاموس الكلمات القذرة» ولذلك النصب والاحتيال تاريخ طويل، وللأسف لم نزل نراه، فكلما نسيته ونسيت ما يلحق بقدسية الكلمات ذكرني نظامٌ ما أو طاغية بذلك الواقع البائس؛ الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لم تصف مستبداً أو أي نظامٍ منحط دعمته أمام خصومها سوى بالحرية، كالكونترا في نيكاراغوا مثلاً، الذين مولتهم ودعمتهم لحرب حكومة الساندينيستا اليسارية الشرعية المنتخبة، وسمتهم «مقاتلي الحرية» في حين كان هؤلاء المرتزقة يغتصبون الراهبات في الأديرة، ويتاجرون في المخدرات، والأمثلة أكثر من أن تحصر، فليس من كلمةٍ ابتُذلت على ألسنة وخطاب الأمريكيين ككلمة الحرية.
▪️أما في منطقتنا المنكوبة والمبتلاة بالطغاة، فحدث ولا حرج، فالحرية والديمقراطية ورفع الرأس، لم تكن إلا مقدماتٍ ومسوغاتٍ للذل ودعس الرؤوس بأحذية الجنود الثقيلة. أقرب تلك الأمثلة هو ما أتحفنا به السيسي مؤخراً من حديثة عن الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وما وصفه من تطورٍ شهدته مصر في هذا المجال أو الملف، جامعاً في ذلك بين الصفاقة والهزل، لعله ناسٍ أنه قبل ذلك ببضعة أيامٍ كان قد زف لنا خبر افتتاح أكبر مجمع سجونٍ في مصر؛ الحقيقة أنني لست على يقين ما إذا كان يبتذل معنى «الحق الإنساني» عن عمدٍ ودراية، فيكون الأمر محض صفاقة ولعب كلامي سياسي مع كونها مشكلة كبيرة، أم أنه بالفعل يصدق نفسه فتغدو مشكلةً أعوص وأكبر!
▪️الشاهد أن السيسي ونظامه لا يرون في الديمقراطية وحقوق الإنسان سوى صداعٍ ولغو من جملة نفاياتٍ وكلامٍ فارغ يلقي به الغرب على رؤوسنا (أو رؤوس رجالات النظام) ووسائل للسيطرة والتدخل والتضييق على الأنظمة وابتزازها، ولابد من الاعتراف بأن في ذلك شيئاً ( أو الكثير) من الصحة، إلا أن استغلال الطرفين للقيم الإنسانية، وتغولهم عليها وابتذالها، لا ينقص من قيمة هذه القيم، بل يجعلهما شريكين في الانحطاط وفي الانتماء إلى عالمٍ فات زمنه ولابد من دفنه. لكن للأسف فإن الميت لم يمت تماماً، أو أنه ما يزال ماثلاً يمشي مسخاً، كما أن السيسي ونظامه والنظام الرأسمالي برمته يزداد عنفاً وضراوةً، وتؤذن الوقائع بفترة صراعٍ مسعورٍ مقبلة على الصدارة، وإعادة تقسيم الحصص، وستزيد الألعاب الكلامية والمزايدات بالقيم التي تفتقدها هذه الأنظمة وابتذال الكلام والمعاني والقيم.
▪️إزاء ما يبدو من تغول هذه الأنظمة على شرف الكلمة والقيم، أجدني أتحسس قلمي. ربما يحوز النظام آلة عنفٍ ضخمة، ويبدو أنه أقام جداراً لا يخترق، إلا أننا بالكلمة، بالتحليل، بفضح التناقض والعوار، نقدر وسنستطيع أن نساعد في خرق هذا الجدار، فالتاريخ يعلمنا أن أعتى الحصون وأكثرها منعةً وأعلى الأسوار، لم يقف أمام زحف الزمن والغزاة، ولعل سور الصين العظيم لم يعد يقف شاهداً إلا على ذلك. لا يقلل ذلك على الإطلاق من قيمة العمل المنظم، إلا أنه بدوره لن ينتصب واقفاً على ساقيه إلا بالنقد والتحليل والتأسيس النظري المتسق الراسخ، وفي لحظةٍ رماديةٍ كالتي نمر بها، يصبح الدفاع عن المعاني والقيم مهمةً نضالية. في زمن الثورة المضادة لا مهرب لنا سوى إرادة التفاؤل والاستمرار، إذ على الرغم من كل التناقضات والعوامل المضادة، فإن واقع الاستغلال والقمع والفشل سيزداد وضوحاً، ومهما حصنت الأنظمة نفسها فإن الزمن يسير ضدها.
يحيى مصطفى كامل _ اشتراكي ثوري
✪ إعلام تيار اليسار الثوري في سوريا من أجل الاشتراكية والثورة
#FrontLineNews
https://linktr.ee/revoleftsyria