
إفتتاحية العدد 53 سبتمبر/ايلول 2021 من جريدة الخط الأمامي
بعد حصارٍ ودمارٍ وتجويعٍ وضعف في شروط التضامنِ الشّعبيِ معها، اضطرت الجماهير المقاومة في درعا إلى القبول بشروط النظام وحلفائه. وهكذا ، بشكل أو بآخر، استعاد النظامُ سيطرته على درعا البلد، مطبّقاً نفس الأسلوب الابتزازي مع البلدات الأخرى. والحقيقةُ المُرة أنه كان صعبا توقع، أن تتمكن الجماهيرُ المحاصرة والمنهكة في درعا من المقاومة ببسالة أكثر مما فعلته.
فالجماهير السورية في عموم البلاد وصلت إلى درجة مريعة من الإنهاك والاستنزاف والبؤس والتعب، على خلفية هزيمة الثورة الشعبية. ورغم ذلك، أو بسببه، يتنامى تململ وغضب شعبي ضد نظام الطغمة، ويتسع ليشمل حتى تلك الشرائح التي يعتقد أنها حاضنة له في كافة مناطقه، ويجد النظام نفسه أمام خياران كلاهما سيئان، فبالرغم من فرض النظام سطوته العسكرية في مناطقه التي أصبحت واسعة المساحة، وخَفَتَ صوتُ الحربِ فيها، لكنّ سياسات التجويع والافقار تزايدت، وتزايد معها غضب الجماهير من نظام معاد للشعب وناهب له، ولم يعد يجدِ النظام نفعاً خطابهُ الممجوج، عن المقاومة والمؤامرة لتبرير سياساته اللاجتماعية.
هنالك، اذاً، غضب متنام ضد النظام في مناطق سيطرته أساسا، يقف النظام أمامه مرتبكا في تعامله معه ،فإن لجأ الى القمع الواسع، وهو ما اعتاد عليه ويفعله مباشرة أو عن طريق عصابات يرعاها، فإن ذلك قد يؤدي إلى تزايد الغضب الشعبي وتنظيمه ليرتد عليه بشكل انتفاضة شعبية جديدة لا طاقة له على مواجهتها هذه المرة، وإما أن يتعامل مع هذا الغضب الشعبي بشيء من الليونة والعنف الانتقائي، ولكن ذلك قد يُفسَّر لدى قطاعات من الجماهير بأنه ضعف للنظام، وهذا ما قد يوسع دائرة الغضب والاحتجاج بأشكالها ضده، وفي كلتا الحالتين، يقف نظام الطغمة حتى وإن تمت إعادة تعويمه، في مأزق يضعه في مواجهة قادمة حتماً مع الجماهير الشعبية.
ومع ذلك، ثمة مؤشرات عدة إلى محاولات إقليمية ودولية تسعى لإعادة تدوير أو تعويم النظام، مثل: مشروع الكهرباء والغاز من مصر والأردن عبر سوريا، توزيع مساعدات الإغاثة عبر الخطوط من مناطق النظام إلى مناطق إدلب التي تقع تحت سيطرة الاحتلال التركي وهيئة تحرير الشام الإرهابية، تصريحات الملك الأردني بضرورة استعادة سوريا لدورها العربي، الزيارة الرسمية لوفد حكومي لبناني، واللقاءات المعلنة وغير المعلنة مع الحكومة التركية وغيرها.
والواضح أن محاولات إعادة إنتاج النظام السوري، تحظى، إلى حد ما، بتوافق روسي-أمريكي، وتسارع ذلك مع الإنسحاب الأمريكي من أفغانستان، إثر هزيمتها بعد عقدين من حربها المدمرة والمجنونة، هذه الهزيمة تشكل معلما ومنعطفا في مسار الإنحسار المتواصل للإمبريالية الأمريكية على الصعيد العالمي لصالح الامبرياليتين الصينية والروسية، مفسحة في الوقت نفسه مجالا أوسع للدول الإقليمية.
هذا لا يعني تراجع القوة العسكرية الأمريكية وهي الآن أقوى ترسانة في العالم، بل يعني أن قدميها (اقتصادها)، لم يعدا قادران على تحمل تبعات حروبها الدائمة عالميا، إلا على حساب انهيارها في نهاية المطاف، كما كان حال العديد من الإمبراطوريات قبلها. كما لا يعني ذلك بالضرورة انسحاب قواتها من كل أماكن تواجدها، بل هو اقرب الى استراتيجية جديدة لها تقوم على تواجد عسكري أقل عددا وتكلفة، وشن ضربات من بعيد، لذلك فالقوات الأمريكية القليلة العدد والتكلفة في سوريا، لن تغادرها قبل أن تُجبَر على ذلك ، أو تحقق مصالحها. بالرغم من أن تواجدها هذا لا هدف له سوى توفير حضور أمريكي في منطقة شرق المتوسط الحساسة، مايجعل منها لاعبا أساسيا فيه، وبثمن رخيص، وهو على كل حال، حضور رخو، يراعي أولا المصالح التركية، ويتجنب الصدام المباشر أو الواسع مع النظام وحلفائه الروس والإيرانيين ،في حين يقتصر الدعم الأمريكي على الدعم العسكري لقسد بوصفها قوة مسلحة محلية، لتحارب داعش عوضا عنها، لهذا نلاحظ أن الإدارة الامريكية لم تعبّر ولا مرة عن دعمها للإدارة الذاتية التي هي المشروع السياسي في شمال شرق سوريا لأنه مخالف لرؤيتها ، بل على العكس تماما، تعمل وتضغط على تدجينه، وتغيير طبيعته السياسية والاجتماعية، لذا فهي ستفرّط به بلا تردد عندما تتطلب مصالحها ذلك، و أفغانستان مثال حديث على ذلك.
أما على صعيد المشهد السياسي المعارض بتلويناته المختلفة، فإنه يشهد ارتفاع في درجة حرارته خصوصا مع نمو شعور عام بأن صفقة ما تتم بين الدول المتدخلة في الوضع السوري، وكما عودتنا هذه المعارضة الليبرالية، فإن ساحة عملها ” الكفاحي” شبه الوحيد هو هوسها في عقد المؤتمرات ” الوطنية” التي تموت سياسيا فور انعقادها.
هذا الوضع البائس للمعارضة عموما، لا ينفي ضرورة المثابرة في محاولة العمل على بناء جبهات متحدة، “الديمقراطية واليسارية”، حول القضايا الأساسية التي تعني الجماهير السورية ، كالسلام وعودة اللاجئين والنازحين وإطلاق المحتجزين، الانتقال الديمقراطي لنظام جديد لا طائفي ولا يقوم على المحاصصة، إعادة توحيد البلاد على أسس جديدة، إخراج المحتلين والاستقلال، الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. والأهم من ذلك أن تسمح بعمل مشترك يتوافق مع حاجات السوريين وليس مجرد إنتاج وثائق مطولات لا حياة فيها ولا مستقبل، وقبل هذا وذاك، فإننا في تيار اليسار الثوري نولي أهمية قصوى ومركزية لقضية بناء الحزب الاشتراكي العمالي، في كل ساحات عملنا.
تيار اليسار الثوري في سوريا
أيلول/ سبتمبر 2021