
لقد كان واضحا منذ البداية أن ما أقدم عليه قيس سعيد كان انقلابا مكتمل الأركان ورغم ذلك يمثل التمديد خطوة متوقعة في المسار الانقلابي ومحطة جديدة لقطار الاستبداد وفرصة لأن تتضح الصورة ولو قليلا عند من كانوا يتوجسون من ضبابية المشهد السياسي علهم يدركون أننا نتجه نحو تثبيت هيبة الدولة المستبدة وتقوية النظام الطبقي وينتبهون إلى ضرورة الانخراط في الدفاع عن الديمقراطية.
لم يأت التمديد مفاجئا. فبالرغم من الدعوات للحوار التي نادت بها حركة النهضة وأحزاب أخرى وبالرغم من خارطة الطريق التي طالب بها الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمات المجتمع المدني وبعض الأحزاب من قوى سياسية قبلت بالانقلاب – سواء ساندته أم أذعنت له كأمر واقع – رفض قيس سعيد أي حوار قائلا بأن “لا حوار مع الفاسدين”، وعن خارطة الطريق رد بكل تهكم: “من يتحدث عن الخرائط فليذهب إلى كتب الجغرافيا لينظر في البحار والقارات، وخريطة الطريق الوحيدة التي أسلكها وسأسلكها بثبات وعزم هي الخريطة التي وضعها الشعب”. بالإضافة للأسلوب الوقح في الرد فلا وجود لما تسمى “الخريطة التي وضعها الشعب” فالشعب لم يضع أي خرائط ولا يعرف أي خرائط. إذن ما في ذهن وتخطيط قيس سعيد هو ما يريده الشعب وخطط له بأثر رجعي. كل هذا الفكر الاستبدادي والممارسة الاستبدادية واليسار والديمقراطيون يتصنعون العمى!!
لا يُلزم الرئيس نفسه بأي قيد ويترك التمديد مفتوحاً “حتى إشعار آخر”:
لا يمنح قيس سعيد إجابة لأحد، فلا جدول زمني ولو تقريبي للخروج من الأزمة ولا برنامج سوى بعض الأفكار الشعبوية. كما أنه يرفض التفاوض مع الأحزاب والمنظمات. فهو الذي تم انتخابه من دون سند معلن من حزب أو مؤسسة وجاء بفضل استياء الناخبين من “المنظومة السياسية”. ونذكر أن قيس سعيد ميز نفسه بأنه قام بحملة تفسيرية وليس حملة انتخابية، وأن مشروعه يقوم على فكرة الحكم المباشر والتي يؤولها البعض على أنها ديمقراطية مباشرة. وإذا كان قيس سعيد استند ولو شكليا للمادة 80 دون احترامها وفي خرق واضح للدستور فهو لم يلتمس أي سند من الدستور عند التمديد وبذلك هو يستعد عملياً لإسقاطه وطرح تعديلات على الدستور أو على الأرجح دستورا جديدا.
أفكار قيس سعيد عن “الديمقراطية المباشرة” تصب في صالح تقوية الدولة
لا نعلم إذا كان قيس سعيد سيحاول تطبيق “مشروعه” ولكن ننبه أن فكرة “الديمقراطية المباشرة” التي تبناها من “قوى تونس الحرة” بعد أشهر من الثورة وطرحها على طريقته وسيطرحها اليوم بعد الانقلاب تشير إلى نقطتين في غاية الأهمية: أولا، عدم اقتناعه بالنظام الحزبي والتنافس الحزبي الحر، والثاني، هو أن النظام المنشود كما فسّره أيام الانتخابات في حواره مع الشارع المغاربي هو أقرب شيء لا لحكم الشعب بنفسه ولكن إلى التنظيمات السياسية من قبيل “هيئة التحرير” في مصر وبعدها “الاتحاد الاشتراكي” وهي التنظيمات التي أسسها النظام الديكتاتوري لتعبئة وحشد الجماهير في خدمته، لا العكس، وذلك بالتزامن مع إلغائه للعمل الحزبي والتنافس الديمقراطي. وكانت هذه الأدوات السياسية للتعبئة الجماهيرية تقوم أيضا على الوحدة المحلية ثم القرى أو المدن ثم المناطق أو المحافظات وهلم جرا، حتى الوصول إلى المؤتمر القومي والمستوى الوطني. هذا ليس جديد. ما يدعو إليه قيس سعيد قديم ومستهلك ومبتذل واستُخدم من قبل وثبت أنه دعامة للحكم الاستبدادي. أفكار قيس سعيد عن “الديمقراطية المباشرة” تصب في صالح تقوية الدولة وتقوية يدها في قيادة “الشعب” وتوجيهه.
مناخ يغذي الميول الاستبدادية
يأتي هذا التمديد في ظل إخضاع نواب* للسجن وإحالتهم إلى القضاء العسكري ومضايقة الشرطة لعائلاتهم بالإضافة إلى تقييد لحرية التنقل والسفر ووضع رئيس هيئة مكافحة الفساد السابق شوقي طبيب تحت الإقامة الجبرية إلخ. كما عشنا فيضا من الأخبار والإشاعات التي تتعلق بالفساد وحملات تشويه خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض الصحف (جريدتي الشروق والأنوار على سبيل المثال). بالإضافة إلى إشاعات عن مؤامرات لاغتيال الرئيس وهجمات إرهابية. وهو المناخ المطلوب لتغذية الشعور بحالة الخطر الداهم لأنها تستدعي مواصلة الإجراءات الاستثنائية وتركيز السلطة في يد الرئيس. فكل مؤسسات الدولة مشبوهة وموضع للشك والتشفي عدا المؤسسات الأمنية والعسكرية وشخص الرئيس النظيف، الزاهد، والذي يحتاج أن يتخلص من ضوابط الدستور وقيود الديمقراطية حتى يطبق القانون على طريقته.
قد يعود بنا قيس سعيد إلى المقولة المنسوبة إلى لويس الرابع عشر “أنا الدولة”
لنتوقف قليلا أمام خطاب قيس سعيد الذي ألقاه أمام وزير التجارة لتفكيك بعض ملامح الشعبوية. يقول قيس سعيد لضيفه “أتحدث اليوم معكم وإليكم وعبركم للشعب” وهو نهج دأب عليه قيس سعيد يوجه من خلاله رسائل متعددة لخدمة مشروعه السياسي. فمثلا سعى الخطاب إلى الربط المباشر بين غلاء الأسعار والفقر والفساد وضرورة إلغاء الديمقراطية “على الشكل الذي كانت تعمل به”. فيشرع بكل حماس في التنديد بالمحتكرين وبمن “يريدون تركيع الشعب والتنكيل به وتجويعه” ثم يواصل الحديث عن “مسالك التجويع” واللوبيات التي تقف وراءها وتعمل على تجويع الشعب عن قصد وفي نفس السياق يتحدث عن أعضاء مجلس النواب وخصومه السياسيين الذين “لا يفهمون الفرق بين الشرعية والمشروعية” والحكومات “الي ياكلو من نفس القصعة” بمعنى أنهم متواطئون مع المحتكرين ليستنتج أن البرلمان كان خطرا داهما وجاثما على صدور الشعب.
وبالنسبة لقيس سعيد الخطر الجاثم هو المؤسسات السياسية بالشكل الذي كانت تعمل به. ومن الواضح أنه ينوي التخلص من الدستور ونصوصه بما أنه “كلما زاد نص ازداد لص” والتخلص من اللصوص يحتم عليه التخلص من النصوص والقيود التي تمنعه من المضي في حربه ضد الفساد. وفي المقابل يتماهى الشعب الذي “لن يركع” مع الرئيس الذي “لن يركع لغير الله” . تنديد قيس سعيد بالاحتكار والمضاربة وحديثه عن “الفلوس إلي جات من الخارج وتسرقت” كلها تصب في تشويه مؤسسات الديمقراطية من أجل خدمة مشروعه السياسي. كما لا يخفى الطابع الاستخباراتي في خطاب قيس سعيد قبل الانقلاب وبعده. فيواصل اليوم وهو الماسك بزمام الأمور بترديد أنه “سيأتي الوقت الذي نكشف فيه كل الحقائق”.
تكمن شعبوية قيس سعيد وخطورته في كونه يقدم نفسه كمنقذ للشعب والدولة في نفس الوقت: “لا مجال للعب بقوت الناس” و “لا مجال للعبث بالدولة”.
بتواصل هذا المسار سيعود بنا قيس سعيد إلى المقولة المنسوبة إلى لويس الرابع عشر “أنا الدولة”*.
غياب المقاومة
في ظل هذه الهجمة الشرسة على الديمقراطية خيرت حركة النهضة المهادنة وعدم التصادم وكان بيانها الأخير بعد التمديد عبارة على مزيد من الانبطاح في حين جاء بيان ائتلاف الكرامة أكثر جرأة. وبسبب العزلة والقطيعة الموجودة مع بقية الأطراف السياسية لا يلوح في الأفق أي تحرك ميداني رافض للانقلاب.
لابد من الإشارة للموقف المخزي الذي اتخذته أحزاب الكتلة “الديمقراطية” في البرلمان المتكونة من حزب حركة الشعب والتيار الديمقراطي والتي دعمت الانقلاب. حركة الشعب دعمت قيس سعيد بشدة وهو أمر متوقع من حزب ينتمي للأفكار القومية التي لاترى مانعا في الاستبداد مع تمنيات وأحلام يقظة بأن يكون لقيس سعيد نكهة ناصرية. في حين أن التيار الديمقراطي (حزب لبرالي) يدعم الانقلاب مع توجيه القليل من النقد والكثير من النصائح للرئيس. سيسجل التاريخ أن محمد عبو القيادي السابق لحزب التيار والذي عارض نظام بن علي كان من أول من اقترح على الرئيس تفعيل الفصل 80. ليس غريبا عن الليبراليين أن يدافعوا عن الديمقراطية عندما تكون في صالحهم وأن يتخلوا عنها عندما تشتد الأزمة كما أن شعار “دولة قوية و عادلة” الذي حمله الحزب كان ينبئ بإمكانية الانحراف نحو دعم الاستبداد بتعلة إنقاذ الدولة ومحاربة الفساد.
وساند حزب الدستوري الحر الانقلاب ولكنه يرغب في أن تتم معاقبة النهضة بنسق أسرع. تدعي اليوم رئيسته عبير موسي أنها تدافع عن حق أنصارها في عقد اجتماعات. ونذكر عبير موسي كانت تتحسر على زمن بن علي وهي التي لم تخف عدائها للثورة والديمقراطية. بل لقد أعادت خطاب النظام السابق للساحة السياسية فهي لم تتوقف عن نعت الإسلاميين بالإرهابين وكل من يتحالف معهم بالخونة. حتى أن من أوليات هذا الحزب اليوم وأثناء الهجمة على الديمقراطية هي حل جمعية اتحاد علماء المسلمين في تونس وهو مطلب سالب للحريات! كل التضامن مع أنصار عبير موسي وذلك بدعوتهم إلى محاسبة رئيسة حزبهم لأنها ساهمت بشكل كبير في سلبهم حقوقهم في التنظّم والعمل السياسيّ.
جزء من القوى اليساريّة تساند الانقلاب مثل حزب الوطد (حزب الشّهيد شكري بلعيد) أو حزب النّهج الشيوعي الذي تأسّس منذ أسابيع ليكون أول موقف له موقف يمينيّ معاد للديمقراطية! والعديد من اليساريين تقبّلوا الانقلاب كأمر واقع وحتى إن أبدوا قلقهم من النزعة الاستبدادية فيبقى نقدهم للتّضييق المستمر على الحريات باهتا وبلا أثر حقيقي في هذه المرحلة. أمّا حزب العمال فميّز نفسه عن بقية اليسار برفضه الاستبداد ولكن للأسف دون طرح أيّ حلّ عملي خاصّة بتأكيده عن رفضه العودة لما قبل 25 جويلية.
نسجّل كذلك مقاومة بعض القضاة والمحامين والشّخصيات السياسية المعروفة ولكنهم بحاجة إلى مساندة سياسية من قوى اجتماعية وأحزاب منظّمة.
لغاية هذه اللحظة لم يتحرّك الاتّحاد العام التونسي للشّغل ومنظّمات المجتمع المدني بمعارضة الرّئيس رغم نزعته الاستبدادية ورفضه للحوار. إن الاكتفاء بالنقد والتّنديد لن يوقف قطار الاستبداد وهو أمر تدركه القيادات أو تتجاهله وسيندم عليه أتباعهم.
*النواب الذين أحيلوا على القضاء العسكري هم ياسين العياري وبعض النواب من ائتلاف الكرامة
* “l’état, c’est moi” attribué à Louis XIV
:تحليل ماركسي ثوري للإجراءات المعادية للديمقراطية في تونس.
نُشر هذا المقال في صفحة ” يساريون ضد الانقلاب “
التي تعارض إجراءات قيس سعيد من وجهة نظر ثورية.
كل بحب سلط مطلة